بقلم : ذة. سعاد الأمين
مهم جدا أن يصدر كتاب في زمن قياسي في ظل إكراهات الحجر الصحي، وبجودة عالية تأليفا و طباعة وإخراجا حول موضوع حديث لا يزال قائما لم تتحدد معالمه بعد، يحتاج لأجل ذلك جرأة منقطعة النظير في التحليل والتأويل.
“كورونا والخطاب” كتاب يقع في مائة وخمس وأربعين صفحة، صادر عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية في ماي 2020، للأستاذ أحمد شراك عالم الاجتماع المغربي المعروف بأبحاثه الجادة حول رصد التغيرات المجتمعية “سوسيولوجيا الربيع العربي” نموذجا .
كتاب قدمه الأستاذ شراك على أنه ” يزاوج بين السؤال السوسيولوجي والتأمل الفكري في ارتباط مع الخطاب اليومي، هو مجموعة من اليوميات سجلها الكاتب منذ 16 مارس إلى الأربعاء 15 أبريل، أي منذ بداية الحجر الصحي في المغرب، تطرق خلالها لكل ما يتعلق بدراسة السلوك الاجتماعي للأفراد وللمجتمع المغربي في ظل التغيرات التي أحدثها وباء كورونا كوفيد 19، مبرزا أنماط تفاعلات الحياة اليومية للمواطنين في محاولاتهم لتجنب الإصابة بالوباء أولا، وللتعايش مع أسلوب الحجر الصحي المفروض ثانيا.
هي يوميات مؤطرة موضوعاتيا إلى المقالة أقرب وهي” مقدمات أو مفاتيح لقضايا كبرى وصغرى قابلة للنقاش فيما بعد” على حد تعبير الكاتب: تناول فيها مواضيع مرتبطة بكورونا مثل التعليم عن بعد، و إكراهات الرقمنة، والبحث العلمي وحتميته، والتضامن الاجتماعي و راهنيته، إلى رصد الروح الوطنية الممثلة في اللحمة والوحدة، إلى قياس مؤشرات الإبداع في زمن كورونا، ليغوص في أعماق الأسرة المغربية ويجس نبض التعايش بين الأزواج ويقيس منسوب الحب أو الحقد بينهما في ظل الإقامة الجبرية، ثم مكانة الأطفال في هذا المحيط الذي لا يتلاءم مع هذه الفئة وطاقتها الزائدة على الحركة، دون أن يغفل متغيرات مثيرة تتعلق بما أنتجه المخيال الاجتماعي المغربي من تعليقات ساخرة ورسوم كاريكاتورية معبرة، فتحدث عن الفكاهة والكمامة والإشاعة ومكانة المقدم المتنامية ودلالتها على” التلاحم بين السلطة والمجتمع ضد عدو واحد” .
كما نجد في الكتاب تأملات ذكية مستفيضة أحيانا حول قضايا مستجدة مثل دور النافذة في تحقيق الفسحة النفسية والانفتاح على الحياة، وكذا دور القراءة وضرورة تحولها من وسيلة لملء الفراغ إلى سلوك يومي حضاري، ثم ذكر نتائج استخلصها من تأثير الوباء والحصار، مثل تسجيله لمساهمة الثقافة المغربية وحضورها في عبور الجائحة، ودور المثقفين بشتى أطيافهم في المعرفة والتحسيس والتوعية، وكذا تسجيل المجهودات الاستباقية الهامة التي قام بها المغرب لمواجهة الوباء.
وكما هو مؤكد في عنوان الكتاب ومحورية لفظة الخطاب فيه، فإن الكاتب قام بتحليل الخطاب اليومي الرائج حول كورونا وكذا خطابات أخرى مرتبطة به، مثل الخطاب السياسي وذلك من خلال تتبع ونقل بيانات وبلاغات وزارية وقرارات ملكية وتدابير مختلفة في تعامل المغرب مع الجائحة مقارنا إياها بسياقات دولية مشابهة.
ثم الخطاب الإعلامي من خلال تتبع وتحليل أخبار صادرة عن جرائد وطنية وإلكترونية وقنوات تلفزية ومواقع رقمية وكذا تدوينات عبر منصات التواصل الاجتماعي، مؤكدا على أن مواجهة الجائحة لم تكن لتتم إلا بإعلام مسؤول وإيجابي.
ثم الخطاب الإبداعي عبر الإشارة إلى تنامي منسوب الإبداع الكوروني المنتشر كالفطر في ظل الفراغ المستحدث وتأجج الروح العاطفية الإنسانية، وتوصيف ما ينشر سواء على مستوى القول أو الصورة أو الغناء أو التشكيل أو التصوير، ليتجاوز ذلك إلى رصد بعض ملامح الإبداع في الحياة اليومية وتفاصيلها الدقيقة في مواجهة الوباء والتعامل معه.
ثم الخطاب السوسيولوجي المغربي، فقد رصد بداية علاقة جديدة بين السوسيولوجيا والفضاء العمومي، وسجل تدخل السوسيولوجيا وانتعاشتها من خلال أبحاث وكتب وندوات لسوسيولوجيين لهم دور في طرح السؤال والتعبير عن قلقهم وتوقعهم.
والجدير بالذكر أن للكاتب حسا أدبيا لافتا من خلال تملكه للغة جميلة رشيقة ذلول طيعة أسعفته في التعبير بدقة ووضوح، ناهيك عن كنايات لطيفة وظفها للتعبير عن الوضع مثل الجذبة كناية عن كثافة الإبداع الكوروني، ثم المعتزلة كناية عن الملتزمين بالحجر الصحي، والخوارج كناية عن الخارجين عن الإجماع الوطني، وكناية حرف الحاء تلميحا للحب والعلاقة الحميمية بين الزوجين، كما قام بإبداء ملاحظات نقدية ذات طابع أدبي صرف مثل حديثه عن قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة التي ارتبطت بوباء أيضا وكانت إيذانا بولادة تيار الحداثة الشعري، واستشرف بناء على ذلك إمكانية تجديد أدبي مع وباء كورونا.
لم يكتف الكاتب بتصوير الواقع الكوروني والانقلاب الذي عرفته الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها بل قام بطرح توقعات استشرافية بالغة الأهمية، مثل التنبؤ بأن ينقلب الحجر الصحي إلى حجر قرائي يفيد في ترسيخ العادات القرائية لدى المجتمع والناشئة على الخصوص، وبذلك يتحول زمن الحجر الى زمن تنموي إيجابي يؤدي إلى اكتساب عادات وسلوكات متحضرة، كما طرح الباحث في إطار الاستشراف دائما سؤال البعدية أي ما بعد كورونا عالميا وإمكانية تغيير القطبية الوحيدة الآنية وانتقالها إلى التعددية وتحقق الحلم الصيني في ريادة العالم، ولكنه في نفس الآن وتجنبا لكل شطط في الحكم توقع إمكانية تغير كل هذه السيناريوهات بانتهاء العصر الكوروني.
الكتاب إذن نبش في سلوكات متغيرة وغوص في بنيات المجتمع المغربي عبر تحليل الوضع الاجتماعي في المغرب بعد كورونا، وتصوير دقيق للمناخ الجديد الذي أفرزته الجائحة، كتاب رفيع المستوى يجمع بين الذاتي والموضوعي، بين المحلي والكوني، بين استقراء الحاضر واستشراف المستقبل، بين تحديد الإشكال وقلق السؤال، بين التأمل العميق والمتابعة الواعية والتحليل النقدي الدقيق، كتاب يثبت أهمية علم الاجتماع ودوره في جس نبض المجتمع وتحليل مكوناته ومواكبة تغيراته، ولم لا توجيه دفته وريادته وفق بحث ميداني وتنظيري وميتولوجي هادف.
الرئيسية / الرأي / كتاب” كورونا والخطاب” للدكتور أحمد شراك : سوسيولوجيا المجتمع المغربي في زمن كورونا
شاهد أيضاً
عن معنى جغرافية الرماد و الدخان !
عبدالواحد التواتي/ماروك24ميديا بقلم : عبد القادر العفسي بالمباشر ، إن المؤامرة التي دبرها العديد من …
إذا لم تكن مستوعبا لمفهوم الأمن، أنصحك بالصمت
بقلم / محمد القاضي كنت جالسا في مقهى خارح مدينة فاس أرتشف قهوتي ، …