جبران زازيد
يرجع بعض المفكرين الغربيين الفضل في الانطلاقة الفعلية لما بعد الحداثة للثورة الطلابية الفرنسية، التي خرجت من جامعات باريس سنة 1968 لتنتقل إلى باقي المدن الفرنسية وعدد من المدن الأوروبية، والتي رفعت شعارات ضد الرأسمالية ومهاجمة المنهج الاستهلاكي الامبريالي الأمريكي. فإن كان من نتائجها اعتزال الرئيس الفرنسي ” شارل دوغول” العمل السياسي، فإن أقواها هو المنعرج الجديد الذي عرفه المجتمع الفرنسي الذي رفع مع بداية الحراك مطالب حقوقية لينتهي إلى تحقيق ثورة اجتماعية وثقافية وأخلاقية، ساهم فيها إلى جانب طلبة الجامعات عدد من المفكرين الفرنسيين، يتقدمهم الفيلسوف “جان بول سارتر” الذي كان أبرز محرض على التظاهر في جامعة السربون ، ومما أشار به لقادة التمرد أن ما يثير الاهتمام في تميز حراكهم هو أن كان من مخرجاته ما سماه توسيع حقل الممكن.
أما المنظر والمهندس المعماري الأمريكي “تشارل جينكس” الذي عرف بنقده لما بعد الحداثة، اعتبر أن لحظة هدم مشروع الإسكان العام “برويت ايجو” سنة 1972 هو الانطلاقة الفعلية لما بعد الحداثة. لقد مثل هذا المشروع الذي بني سنة 1951 عنوانا للفصل العنصري المقيت، فقد اشتمل على 33 مبنى لكل منها 11 طابقا، قسم إلى منازل “بويت” مخصصة للسكان السود ومنازل “ايجو” لايواء السكان البيض. حسب جينكس فبتحطم هذا المشروع تحطم معه المنهج العمراني الحداثي، ممهدا لمنهج ما بعد الحداثة الذي مس مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والفنية والسياسية والعمرانية.
غير أن الاضطرابات التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام بعد مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي “جورج فلويد” على يد رجل شرطة أمريكي أبيض، وتناسل شهادات وتقارير صحفية عن استفحال الممارسات العنصرية ضد فئات من المجتمع الأمريكي على رأسهم ذوي البشرة السوداء، يبرز أن الأمريكيين إن حطموا طوب بناء برويت ايجو فروحه الشريرة مازالت منتصبة تنفخ سمها بين النفوس المريضة بينهم. مما يدفع بأسئلة مؤرقة لتطفو من جديد على سطح الاشتغال الفكري، لتنبش في حقيقة “المابعديات” التي نحتها عدد من المفكرين الغربيين خصوصا في موضوع الحداثة، إلى درجة الحديث عن ” بعد ما بعد الحداثة” كما هو الحال مع المفكر “رؤول ايشلمان” الذي تنبأ بنهاية ما بعد الحداثة. ألا تنتصر هذه الأحداث وما شابهها إلى ما ذهب إليه “هابرماس” في تأكيده أننا مازلنا نعيش في الحداثة فهي مشروع لم يكتمل بعد، فالتنوير والعقلانية لم يصلا ذروتهما. أم أن عصر ما بعد الحداثة مازال مستمرا كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”؟
من المؤكد أن الأحداث التي يعرفها العالم اليوم وما تحمله من مؤشرات على ازدياد غربة الإنسان وتشييئه وتعاسته والفشل في الإجابة عن أسئلة القلق الوجودي لديه، لن يكون لها مخرج إلا بتعاضد جوهر ما هو ديني وفكري وفلسفي بما يخدم الإنسان بتحريره مما هو غارق فيه من قيود عبودية متلونة متجددة ورفعه إلى مقام الحرية والمخلوق المكرم .