إن الوضع الحرج الذي تعيشه البلاد من استنفار كبير على كل الأصعدة لمؤسساتها بسبب جائحة كورونا. وكذا تجميد نشاطات حيوية في ميادين شتى سيما قطاع التعليم بإغلاق الجامعات والمدارس ومراكز التكوين والمعاهد، علاوة على الشلل شبه التام في القطاعين الصناعي والخدماتي. كل هذه الإجراءات الاستباقية المتخذة في سباق سريع مع فيروس كورونا قصد تطويقه دوليا بقطع الاتصال مع العالم برا وبحرا وجوا. وكذا تضييق الخناق عليه وطنيا بمنع المواطنين من السفر والتنقل بين المدن وتقليص مساحته الجغرافية على مستوى الجهات 12 للمملكة باجراءات جزرية صارمة جدا وإن أعطت أكلها بعد حين.
إن كل ما سبق يعود بنا إلى الإشكال الفلسفي التاريخي وهو العنف كجهاز قمعي تمارسه الدولة (سواء أ كانت هذه الدولة ديمقراطية، ثيولوجية، شمولية…) ضد من يهدد كيانها وثوابتها واستقرارها. وبالتالي يتساءل الكاتب في هذا الصدد؛ هل العنف آلية لضبط الخارجين عن القانون العام، أم هو إقبار لمفهوم الحرية في تجلياته المتعددة؟ أليس من الظلم أن نقوم بتأثيم الدولة وتبرئة المواطن “المتهور” ؟! كيف نضمن استمرارية أي مجتمع بدون عنف تتبناه الدولة في سياق تأديب وتقويم من انحاز عن الخط المرسوم؟
أليس العنف رغم تمظهراته البشعة، يبقى حاجزا لردع الإنسان من العودة إلى حالة الغاب حيث حرب الكل ضد الكل؟
إن الدولة هي ترسانة من المؤسسات السياسية والقانونية والإدارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، التي تنظم حياة الفرد داخل مجال ترابي محدد وهي ليست المجتمع المدني، بل هي أكثر من ذلك فهي كيان يسمو على الأفراد وإن كانوا أعضاء فيها. فهم يعيشون داخل مجتمع مدني يضمن مصالحهم ويحقق حاجياتهم من خلال مؤسساته كالأسرة والمدرسة… لذا لا يمكن لأقلية متهورة أن تفسد أمن واستقرار أكثرية منضبطة في ظل استعداد وتأهب الجميع لأي تحول تسفر عنه حصيلة نتائج جائحة كورونا في الأسابيع المقبلة.
وفي خضم هذه الخروقات السافرة للحجر الصحي، التي تشكل تهديدا للسلم العام وبالتالي تهديد لصحة عموم المواطنين، تنهج الدولة تدابير زجرية وعقوبات قاسية تتراوح بين السجن 3 أشهر إلى 6 وغرامة مالية بين 300 درهم إلى 1300 درهم مغربية.
ورغم الترسانة الجادة من الحزمة الزجرية ذات النكهة القانونية التي نهجتها الدولة المغربية، يتم تسجيل خرق سافر من قبل بعض المواطنين لهذه الإجراءات حيث وصلت حصيلة عدد الموقوفين إلى أكثر من 30000 شخص بين مستهتر زائغ ومعنتر فارغ. إذ هناك شريحة واسعة تتبنى نظرية “المؤامرة” فهي لاتزال تعتبر فيروس كورونا “كذبة أبريلية” وأن الأمر لا يعدو أن يكون سيناريو ماسوني أو مخابراتي، دولي لإلهاء الناس عن ما يحدث في العالم، بل في صفوف هذه الفئة من يقسم بأغلظ الأيمان أن فيروس كورونا ما هو إلا صناعة الغرب لإحكام القبضة من جديد على الشرق. وهناك فئة أخرى من المتهورين غالبيتهم من المراهقين، المتسكعين الذين اعتادو في الأيام العادية أن يجوبوا الشوارع والأزقة طولا وعرضا في ظل الأوضاع الاجتماعية المحيطة بهم من بطالة وفقر وإدمان…
لقد اهتم فلاسفة العقد الاجتماعي بكيفية ظهور المجتمع المدني، أي الدولة فأكدوا على كون الدولة لم تقم على مفهوم مقدس، إنما قامت على مفهوم التعاقد بحيث تنازل الناس عن بعض حقوقهم لأمير مقابل ضمان السلم لهم والحفاظ على ممتلكاتهم. غير أنهم اختلفوا حول مسألة أساسية وهي حدود تدخل الدولة وصلاحياتها. فنرى “طوماس هوبز” مثلا يمنح سلطة واسعة ومطلقة الدولة، إذ عليها أن تتدخل في جميع مناحي الحياة الفردية والجماعية. فالسلطة المطلقة التي يتمتع بها الحاكم، ليس هدفها هو خدمة مصالحه الخاصة وتفرده بالحكم، وإنما تهدف إلى السلم وحماية الممتلكات وضمان الاستقرار في المجتمع، كي لا يفكر الناس في العودة إلى حالة الطبيعة، التي عبارة عن حرب الكل ضد الكل. وهذا ما يؤكده اسبينوزا “إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة هي خدمة الأفراد وتحقيق الاستقرار والأمن لهم.” وبالتالي فالحرية ليست أن يتصرف كل شخص وفق ما يمليه عليه قراره الشخصي، لأن الحق الوحيد الذي يتخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم.
قد يبدو للقارئ أن الباحث في مقاله هذا يمأسس للعنف ويضفي عليه نوع من الشرعية ويلبسه رداء ملائكيا، إلا أن الأمر غير ذلك بتاتا وكل من ظن ذلك فقد جانب الصواب بتخمينه ذاك. هذا ما يجعل من صاحب المقال يستحضر ما أثاره المفكر اللبناني جورج طرابيلشي في إشكالية “الذئب والحمل” كما أشار إليها في مؤلفه القيم “هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية.”، فهو يثير بفضول جملة من الثنائيات المتعارضة بين الدولة والشعب؛ فالدولة ذئب والشعب حمل وديع، الدولة قابيل والشعب هابيل، ولكي لا يكون كاتب المقال “هغلييا” بين هذه الثنائيات الضدية، فإن منطق تأثيم الدولة وتبرئة الشعب يحمل بين طياته على عكس مدعاه ديمقراطي جرثوم شمولية جديدة. فلا يمكن دائما حصر العلاقة بين الدولة والمواطن في دائرة علاقة إبليس بالملاك. لأن الإنسان حسب “سيغموند فرويد” كائن عدواني وشرير والحضارة ليس بمقدورها سوى كبح شهوات العنف وليس القضاء عليها نهائيا. والعنف أيضًا يعتبر إيجابيا بكونه يؤدي ويقود إلى نشأة الحق على أنقاض ردود فعل هوجاء. ونفس الأمر يشدد عليه بقوة طوماس هوبز الذي يرى أن الإنسان عدو لأخيه الإنسان، بل يضيف أن “الإنسان شرير بطبعه”. والشاهد على هذا أن الكثير منكم عاين كيف تسابق معظم المواطنين نحو المركبات التجارية والأسواق لاقتناء السلع وادخارها ما نجم عن الأمر مضاربات زادت المواطن الفقير تفقيرا و زدات مافيا الاحتكار غنى مضاعفا. هذا مثل بسيط من جملة من التصرفات اللا إنسانية التي بصمت الفترة الأولى من الجائحة بالمغرب.
ومن جهة فإن الفكر الفلسفي يرفض العنف الفيزيائي أوالرمزي أوحتى التقني… بل يعتمد العنف المشروع، ضد العنف غير مشروع، الذي هو العنف الدموي المدمر لحيوات البشر. حيث يتمثل “عنف الفلسفة” في اعتماد الخطاب العقلاني المتماسك الذي يخرج العنف الدموي من اللامعنى إلى المعنى، بحيث يحوله إلى خطاب وحوار ونقاش وجدال. فالماركسية ترى أن العنف ليس حالة طبيعية، إنما هو سمة للحالة الاجتماعية التي أفسدتها الملكية الخاصة لوسائل الانتاج في ظل نظام رأسمالي. ومن جهة أخرى فالدولة كيف ما كان نظامها حداثيا أو تقليديا: ثيولوجيا (القانون الإلهي)، ديمقراطيا، أم ديكتاتوريا، لا يمكنها الاستغناء عن العنف. لأن وظيفتها الرئيسة هي ممارسة العنف الشرعي والمنظم بالقوانين أو اجراءات صارمة، وبذلك فالدولة هي التي يسمح لها بممارسة العنف واحتكاره ولا يسمح لأي كان ممارسته، إلا إذا وافقت الدولة على ذلك. فالجهاز القمعي لأي دولة لا يستند في موافقه مع المواطنين إلا بالقوة والعنف لاستتباب الأمن في أغلب الظروف الإستثنائية وكلما حاولت فئة تقويض الاستقرار واعتماد سياسة التأليب بانتهاز الفرص التي تكون فيها الدولة تعيش مخاضا عسيرا يكون الرد أقسى.
توجيه: لا يسع الباحث إلا أن يوجه رسالة لعموم المواطنين أنه حان دوركم في إنقاذ البشرية وهو الالتزام بالحجر الصحي، فلا تضيعوا دور البطولة ومعانقة المجد بالتغلب على هذه الجائحة العالمية.
#خليك_بالبيت على رأي ما تغنت به السيدة فيروز.
بقلم ✍️ محمد الأسمر باحث في سيميولوجية التواصل السياسي والإعلام.