تعتبر الظاهرة الانسانية معقدة ومركبة في آن واحد، سنقوم في هذه المقالة بدراسة “التنافس الامبريالي وعلاقته بالثورة والثورة المضادة”؛ في تحليلنا سنقتصر على بعض النماذج لما حدث في أوربا منذ الثورة الفرنسية سنة 1789م، وتعاقب الأحداث بعد ذلك خلال القرن 19م، ما يسمى في التحقيب التاريخي الأوربي بداية التاريخ المعاصر، ونقارنه بما عرفه العالم العربي من أحداث منذ سنة 2011م، إلى اليوم، ما يطلق عليه “الربيع العربي”؛ فالحدث الثوري ليس فقط فيما يشحنه من توقعات ومشاعر وحركات، ولكن أيضا فيما يتضمنه من طموح للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية؛ لكن تواجهه عدة عراقيل،
ما هو التنافس الامبريالي؟ فماهي الثورة؟ وما أوجه التشابه والاختلاف بين ما حدث في أوربا والعالم العربي؟ وما علاقة التنافس الامبريالي بالثورة؟
شهدت أوروبا عدة أحداث بعد الثورة الفرنسية، وما عرفته من تحولات وصراعات “الحروب النابليونية؛ التي اجتاحت عموم أوروبا”، والثورة المضادة المتمثلة في مؤتمر فيينا سنة 1814- 1815م، وما أسفر عنه من اتفاقيات حكمت علاقات الدول الأوروبية طوال العقود الأربعة المقبلة، مع إجراءات لإعادة التاريخ إلى الوراء بإرجاع الملكيات المخلوعة لعروشها، وإسقاط الثورات، والحركات القومية والتحررية التي تدعو للجمهوريات بدلا، عن الملكيات، وقمع أي حراك يمكن أن يقوض أمن الملكيات الأوروبية. تتابعت ثورات عدة في إيطاليا بهدف التحرر من السيطرة النمساوية، وتم اضطهادها واحدة تلو الأخرى حتى حل الربيع الأوروبي، عام 1848م، الذي يشبه في صداه صدى الربيع العربي الذي تردد قبل سنوات 2011م.
تعاقبت الأحداث بعد ذلك منذ منتصف القرن 19، “التنافس الامبريالي”؛ حيث اشتد الصراع بين الدول الأوربية من أجل السيطرة على الأسواق الخارجية بهدف تصريف فائض الإنتاج الصناعي، وجلب المواد الأولية، وتصدير رؤوس الأموال، وتشجيع فقرائها على الهجرة إلى المستعمرات للتخفيف من حدة المشاكل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية الدورية، ارتبطت النزاعات الأوربية بالمصالح الشخصية لكل دولة، عقدت مؤتمرات الدول الإمبريالية لتسوية خلافاتها حول مناطق النفوذ “مؤتمر برلين الأول والثاني (سنتي 1878 و 1884)، مؤتمر مدريد (سنة 1880)، مؤتمر الجزيرة الخضراء (سنة 1906)”؛ أدى التنافس الإمبريالي إلى حدوث أزمات دولية، تزايدت حدة التوتر في العلاقات الدولية نتيجة الأزمات والتسابق نحو التسلح والتنافس حول مناطق النفوذ، وإنشاء التحالفات العسكرية وكذا تضارب مصالح الدول في أوربا وإفريقيا وأسيا، إذ يعتبر حلقة وصل بين التحولات المعززة للنظام الرأسمالي والأزمات المؤدية، إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى التي دارت بين دول الوسط (ألمانيا، النمسا، بلغاريا، الإمبراطورية العثمانية) ودول الوفاق (فرنسا، إنجلترا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، إيطاليا) والتي انتهت بانتصار الطرف الأخير؛ ما سيترتب عنه تغير في الأوضاع العالمية التي ستعقبها تغيرات كبرى. فما علاقة ذلك بحدوث الثورات؟ قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نحدد مفهوم الثورة والثورة المضادة؟
الثورة كمصطلح سياسي هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره باندفاع يحركه عدم الرضا أو التطلع إلى الأفضل؛ أما الفهم المعاصر والأكثر حداثة للثورة هو التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل ويوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع. وبالنسبة للمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم.
حدد الباحث “بوميان” مفهوم “الثورة” وعلاقته بالبنية، مقترحا النظر إلى الثورة ليس باعتبارها حدثا عنيفا ومأساويا، بل حدثا هادئا غير محسوس من قبل الذين يصنعونه. إذ لم يعد النظر إلى الثورة “على أساس أنها سلسلة من الأحداث المفردة، بل هي ذبذبة من الإبداع، تبدأ نقطة انطلاق لتنتشر في شكل حركات تكرارية متعددة”؛ والتكرار هو الأهم في نظر التاريخ البنيوي.
كشفت أحداث “الربيع العربي” عن بنية سياسية واجتماعية معقدة. فالدولة التي انتفض ضدها الشارع لا هي دينية محضة، ولا هي مدنية حقة؛ فالأنظمة العربية كانت قد لعبت، في مرحلة التحرر من الاستعمار والحصول على الاستقلال، على تشويش الصورة السياسية والثقافية، والرهان على الضبابية في تدبير شؤون السياسة والدين، وتأمين البقاء برعاية الفساد ونهج سياسة الاستبداد، واللعب على المتناقضات، والعمل على ضرب تيار بتيار آخر، ” مثل: فترة حكم السادات في مصر؛ عندما سمح لتيارات الإسلامية وفسح لها المجال لمواجهة وكبح المد الاشتراكي الناصري”؛ وتخويف التيارات من بعضها البعض، الإسلامية والماركسية في مرحلة أولى، ثم الإسلامية والعلمانية في مرحلة ثانية. وقد وجدت هذه الأنظمة مصلحة كبيرة في هذه السياسة اتقاء لما قد يترتب عن هذا التيار أو ذاك من تهديد قد يعصف بها، أي نظام الدولة الدينية على طريقة “الخلافة”، أو نظام الدولة المدنية على طريقة “الديمقراطية”. أما من الناحية الاجتماعية فقد ظلت الشرائح العريضة في المجتمع، بسبب ضعف التكوين المدرسي وعتاقة المناهج الدراسية، مرتبطة بالخطابات الانفعالية وبالفهم التقليدي الذي يغيب فيه إعمال العقل وحس الاختلاف.
في تونس كما في مصر، “عاد النظام القديم في مصر، وجزئيا في تونس”، أدى ذلك إلى استتباب الأمن، ولكنه لم يتجه إلى تجديد النخب ولا إلى نشر السلطة الجديدة في المجتمع من خلال المواطنة الفاعلة.
إذا ما قورنت بما حصل في أوربا عام 1848م، نهض كل بلد وفقا لإشكالياته وآماله. وكما كتب ماركس، “كل فصل مهم في دليل الثورة بين 1848 و1849م، يحمل عنوان: فشل الثورة”.
دخل الربيع العربي منعطفا جديدا عام 2013م، خرجنا من السيرورة الثورية بالمعنى الحرفي في اليمن، في ليبيا، في سوريا وامتدادها العراقي، رغم أن العراق لم يعرف احتجاجات ثورية كبيرة؛ بعد تدخل عدة دول في شؤونهم “الثورة المضادة”، وابرام اتفاقيات وعقد تحالفات لإجهاض مطالب الثوار وتحويل مسارها إلى صراعات دموية وحروب طائفية وتطهير عرقي؛ انتهى الأمر بانقلاب في مصر، بعد لجوء بعض الثوار الشباب المتمثل في “حركة تمرد” بالمؤسسة العسكرية أدى إلى قيام نظام شبيه بما حدث في فرنسا “نابليون بونبارت”؛ أما في تونس، عاد النظام القديم إلى السلطة، مع بقاء نخبة بن علي القديمة، “القايد السبسي، نداء تونس” وتحولت التكنوقراطية والبيروقراطية إلى قوى معطلة؛ مع ذلك، استطاعَ البلد إدارة تلك المرحلة، بعدم اللجوء إلى العنف لحل الصراعات السياسية.
كانت فرص النجاح ضئيلة بالنسبة للثورات العربية. فمن ناحية، إن لم تستحوذ القوى الثورية على السلطة كما توقع ذلك “كارل ماركس”، ستفتح مجالا لقوى “الأنظمة القديمة” أو لتفاعلات التفكك والعنف المتواجدة والتي نشهدها في أكثر من بلد. من ناحية أخرى، تصبح عاجزة إلا عن تلبية الطوارئ، مضحية بذلك بالحرية، التي كانت إحدى أهم المشاعر التي أدت إلى اشتعالها. الربيع الأوروبي، في عام 1848م، كما في العالم العربي، قام “الشعب الثوري” بخلعِ الحاكم، ولكنه لم يملك الشجاعة، أو الوسائل، أو ربما حتى الإرادة لينصب نفسه كسلطة. لذلك بقي النظام الأسبق مكانه للآلية الانتقالية، ما يسمى “بالدولة العميقة”.
حركت أحداث “الربيع العربي” المياه الراكدة، وخلقت دينامية سياسية واجتماعية جديدة، وتدافعا فكريا غير مسبوق، إلا أن تضارب مصالح الدول الإقليمية والامبريالية، وسعيها لبسط هيمنتها الاقتصادية وتوسيع سلطتها وتأثيرها، أسفر إلى استخدام القوة العسكرية “سيرورة تعنيف”؛ كما حصل في المجتمعات الأوروبية، في فترة ما بين القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ” الصراع في اليمن، سوريا، وليبيا”، إلى الآن لازال قائما؛ بالرغم من عقد تحالفات ومؤتمرات التسوية بين الدول المتصارعة “مؤتمر الرياض تحالف العربي بشأن اليمن (2015)، أستانا بين “تركيا روسيا وايران” بشأن سوريا (2016-2017)، جنيف بشأن سوريا (2014)، الصخيرات بشأن ليبيا (2015)، برلين بشأن ليبيا (2020) بعد توقيع اتفاقية بين تركيا وحكومة الوفاق، وقلب موازين الكفة لصالحهم، وسحب البساط من “حفتر” وداعميه “؛
مهما يكن فمن شأن هذا التدافع أن يفرز اتجاها واضح المعالم على المدى المتوسط أو البعيد. كما أن التربية والتكوين ومؤسسات الفكر والمعرفة ووسائل الإعلام أن تلعب دورا أساسيا في هذا التحول لتشييد وعاء سياسي وثقافي شفاف يتسع للجميع ولكل الآراء والعقائد.
بقلم : إسماعيل سطوري