- عبد العزيز الأحمدي دكتور في الحقوق / باحث في القانون العام
عنوان هذه المقالة مقتبس من كتاب “The Post American World” لمؤلفه فريد زكرياء( ) الذي تناول بالتحليل المؤشرات التي تشير إلى أن النظام الدولي الحالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية قد أفل نجمه وظهر على المسرح الدولي ملامح جديدة ومحاولة رسم مرتكزات إستراتيجية لنظام عالمي جديد متغير من حيث الكم والكيف والتنظيم والعلاقات بين الدول.
وتطرقنا لهذا الموضوع جاء من باب ما تعرفه الساحة الدولية والأمريكية من أحداث تدفعنا إلى القول ببداية نهاية أمريكا في قيادة العالم، بحيث يبدو جليا أن هناك خريطة جيوسياسية جديدة قيد التشكل قد تقزم دور الغرب في قيادة العالم لصالح قوى دولية جديدة.
كما وضع فيروس كورونا الأمن الإنساني والاقتصادي والنظام الدولي أمام تحديات تهدد الأمن والاستقرار الدوليين؛ حيث يلاحظ أن العلاقات الدولية تشهد حالة من الانهيار والتحولات الهيكلية، ويؤكد العديد من الباحثين على أن تأثير أزمة كورونا على شكل النظام الدولي واقع لا محالة وان العالم ما قبل الجائحة ليس هو ما بعد الجائحة التي تتصف بالعالمية وتشبه في آثارها ما تسببه أزمات كالحروب والكوارث الطبيعية، والتي تنذر بتبلور نظام عالمي جديد، فما هي المؤشرات التي يمكن اعتمادها للقول أن هناك نظام دولي جديد قيد التشكل؟
أولا: تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية
منذ الأزمة المالية لسنة 2008 أصبح اهتمام الدارسين يتركز على التحولات في النظام الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وان الأزمة المتعلقة بجائحة كورونا والاحتجاجات الشعبية التي تعرفها مختلف الولايات الأمريكية، والتي هزت صورة أمريكا ومعها أركان النظام الدولي جاءت لتسرع هذا التحول.
بحيث المتابع لمجريات السياسة الدولية يلاحظ تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم ونهجها السياسة الإنكفائية، ومعارضتها لمفهوم العالمية ودعوة رئيسها إلى فكرة “الحدود الفاصلة”، ورفع شعار “أمريكا أولا”، وإعلان الانسحاب من مجموعة من الاتفاقيات؛ في إعادة رسم إستراتيجيتها على الصعيد الدولي من أجل تقليل الأعباء المالية والدبلوماسية في قيادتها لأزمات العالم، فإنها تبقى من الدلائل على تراجع الولايات المتحدة عن التفرد بقيادة العالم.
يستتبع ذلك التفشي المخيف والمهول لفيروس كورونا الذي تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية دول العالم من حيث عدد حالات الإصابة والوفاة، ما يؤكد فشل الحكومة الأمريكية في تدبير أزمة كورونا، مما نتج عنه فقدان أكثر من 20 مليون أمريكي لوظائفهم، وهو ما يدلل به البعض على مظهر من مظاهر تراجع السيطرة الأمريكية الدولية الناجم عن تراجع القدرات الاقتصادية والمالية، وليس فقط تغييرا في إستراتيجيتها.
ويبدو أيضا أن الاحتجاجات الأمريكية هي من نتائج الفشل في تدبير الإدارة الأمريكية للعديد من الملفات الداخلية والخارجية، وليست انتفاضة سود وحسب، بل هي اعتراض من شرائح واسعة من الأمريكيين على الكثير من الأمور منها سوء تدبير جائحة كورونا، حيث تشهد الولايات المتحدة الأمريكية موجة من التظاهرات على خلفية قيام شرطي بتعذيب مواطن أمريكي من أصول أفريقية حتى الموت.
والملاحظ أن الإدارة الأمريكية لم تتعامل بطريقة تمكن من احتواء الاحتجاجات، حيث اقتصر التعامل في مواجهة الاحتجاجات على الجانب الأمني، ما دفع منظمة العفو الدولية إلى المطالبة بتوقف السلطات الأمريكية عن استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين.
في ضوء هذا الفشل في التعامل مع الأحداث التي تشهدها أكثر من 30 ولاية أمريكية، استغلت العديد من الدول التي تتعارض مصالحها مع الولايات المتحدة في توظيف هذه الأحداث في الضغط على الولايات المتحدة، بحيث أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان أن “أعمال الشغب في الولايات المتحدة الأميركية والتي نجمت عن وفاة الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد، كشفت عن خطورة مشكلة التمييز العنصري والوحشي لضباط الشرطة فيها”، وقال خلال مؤتمر صحفي “نحن نتابع تطور الوضع المتعلق بوفاة جورج فلويد، لدى الأميركيين من أصل إفريقي حق في الحياة ويجب حماية حقوقهم، والتمييز العنصري للأقليات القومية هو مرض مزمن في المجتمع الأميركي، وقد كشف الوضع الحالي مرة أخرى عن شدة التمييز العنصري ووحشية إنفاذ القانون وضرورة حل هذه المسائل بالطريقة السلمية، وأعرب عن أمله في أن تتخذ الولايات المتحدة التدابير اللازمة لحماية الحقوق القانونية للأقليات القومية”.
هذا الأمر يعكس مدى إمكانية توظيف هذه الأحداث في التأثير على التوجهات الأمريكية الخارجية خاصة وأنها تعتمد بصورة كبيرة على استثمار هذا الملف في سياستها الخارجية لتبرير تدخلاتها الدولية في الكثير من القضايا الدولية.
تزداد أهمية الاحتجاجات في تأثيراتها كونها جاءت بعد سلسلة من التوترات الداخلية والخارجية والتي فشلت الإدارة الأمريكية في التعامل معها بصورة صحيحة، ومن المحتمل أن تنعكس هذه الأحداث في تداعياتها على الكثير من السياسات، خاصة وأنها جاءت في ظل فشل الإدارة الأمريكية في احتواء ومواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد وهو الأمر الذي ساهم في تصاعد الغضب الشعبي لإدارة الرئيس ترامب( ).
وإذا كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعتبران أداتان للنفوذ الأمريكي، فإن اقتصاد بعض الدول مثل الصين وروسيا، ليست فقط لا تحتاج إلى صندوق الدولي، بل إنها في موقع المنافسة معه، إضافة إلى تهديد الدولار الأمريكي من قبل الصين عبر عملة اليوان الرقمي RMB الذي دخل ميدان التداول، وباتت الخطط جاهزة لتدويله وتحويله إلى عملة احتياط مثل الدولار، ومن خلاله سيتم إفشال أي عقوبات اقتصادية أمريكية في المستقبل، وإعطائها قوة جيوسياسية هائلة( ).
أيضا الصين تطرح الآن ما تطلق عليه “مشروع القرن” وهو إحياء طريق الحرير القديم أو مبادرة “حزام واحد وطريق واحد” أو اختصارا “الحزام والطريق” التي تستهدف ربط اقتصاديات إفريقيا وأسيا و إفريقيا، وقامت بإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية عام 2015، الذي يعتبره الكثيرون منافسا للبنك الدولي، وأحد أدوات الصين لموازنة النفوذ الأمريكي والغربي في العالم( ).
إذن، تفشي كورونا والفشل في احتواء الاحتجاجات، كلها عوامل تأكد تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، بحيث وضعت أزمة المظاهرات المستمرة الإدارة الأمريكية أمام تحديات جديدة على المستوى الداخلي والخارجي بعد اتساع نطاق المظاهرات ووصولها لأوروبا واستخدام قضية مقتل المواطن الأمريكي في الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين على المستويات السياسية والاقتصادية.
فما يحدث من أعمال قمع للمتظاهرين من قبل الشرطة الأمريكية يضع أمريكا في مصاف الدول البوليسية ويجعلها غير جديرة لقيادة العالم الحر، فقد وصلت صورة أمريكا إلى الحضيض بسبب الفشل الذريع الذي منيت به هذه الإدارة على المستوى الدولي نتيجة الانسحاب من العديد من الاتفاقيات الدولية والتخلي عن أصدقائها خلال جائحة كورونا، إضافة للتحديات الخارجية الناتجة تراجع صورة أمريكا نتيجة ما يحدث في المظاهرات من أعمل وعنف وسلب ونهب منظم، فكل ذلك يؤكد أن أمريكا ليست أرض الحرية ولا تصلح أن تكون مثال للحرية والعدالة والديمقراطية في العالم ولا يجب أن تكون منظر لها، وهذا يؤكد أن فكرة التنظير للديمقراطية وحقوق الإنسان خلال العقود الماضية كانت مجرد وسيلة للتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان التي يتم انتهاكها أمام العالم.
ثانيا: ملامح النظام الدولي ما بعد أمريكا
لا يمكن الجزم خلال هذه المرحلة على وجه اليقين بمآل النظام الدولي وموازين قوته، ولكننا نستطيع أن نرسم ملامح للمستقبل، بناء على توجيهات إستراتيجية كانت أخذة بالتشكل فعلا في السنوات الماضية( )، ليفسح المجال لإرساء نظام دولي جديد، حيث يرى عديد من الخبراء أن الصين تحاول التموقع كزعيم عالمي بديل، وذلك راجع إلى النمو الاقتصادي الصاعد بقوة وامتلاكها القدرة على تصنيع كافة السلع، واستجابة الصين لمناداة ايطاليا وصربيا التي تخلى عنهما الاتحاد الأوروبي في مواجهة كورونا، وهو ما عبر عنه الرئيس الصربي معتبرا التضامن الأوربي مجرد خيال، مؤكدا أن الصين هي الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدة بلاده.
هذا ما قد يؤدي إلى فك تحالفات وعقد تحالفات أخرى، وإحداث تغيير كبير في العلاقات الدولية من ناحية توجه دول الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بالمصلحة القومية وتفضيلها عن مصلحة الاتحاد، مما قد يؤثر على وجود واستمرارية هذا الاتحاد الذي لم يصمد أمام أزمة وباء كورونا، وتوجه بعض دوله إلى بناء علاقات أكثر قوة مع الصين وروسيا، مما سينعكس على علاقات هذه الدول مع الولايات المتحدة الأمريكية التي فضلت أيضا المصلحة القومية لأمريكا على مصلحة الدول الغربية التي تحكمها معهم علاقات مهمة جدا؛ وبالتالي ستنعكس على التحالفات العسكرية والاقتصادية المهددة بالانهيار.
الانكفاء القومي والعزلة الإستراتيجية والانطواء الاقتصادي هذه هي العناوين الأبرز للمرحلة المقبلة لما بعد كورونا، وهنا الأقوياء هم من يسجلون لأنفسهم مكان في التاريخ وهم الراسمون الحقيقيون لملامح العالم القادم، وهم المؤثرون على العديد من المسارات الهامة التي ستشكل هوية العالم لما بعد كورونا، وفيما تؤسس الولايات المتحدة الأمريكية للعزلة والانكفاء تفرض الصين نفسها كقوة عالمية بديلة عن هذا العجز والفشل الأمريكي، وانتقال مركز العولمة والقيادة للعالم من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين( ).
هذا ما أكده المفكر كيشور محبوباني، بقوله أن جائحة كورونا لن تغير الاتجاهات الاقتصادية العالمية، وإنما ستسرع التغيير الذي بدأ بالفعل، وهو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين.
من المرجح أن يكون النظام الدولي الناشئ مختلف تماما عن الأنظمة التي سبقته، فقد كان هناك نظام متعدد الأقطاب تديره مجموعة من الحكومات الأوروبية، ثم جاء نظام الحرب الباردة، ومنذ العام 2001 عشنا تحت سيطرة أمريكية مطلقة، عالم أحادي القطب فريد من نوعه توسع فيه الاقتصاد العالمي المفتوح، وتسارع بشكل دراماتيكي، وهذا التوسع يقود الآن التغير التالي في طبيعة النظام الدولي( ).
لقد نظر الكثير من المراقبين والمعلقين إلى حيوية هذا العالم الناشئ واستنتجوا أن الولايات المتحدة وصلت إلى نهاية أيامها، ويعبر أندي جروف عن هذا الأمر قائلا:”تواجه أمريكا خطر السير على خطى أوروبا باتجاه الانهيار..” ويقول جابور شتانيغارت في كتابه ” العولمة تنتقم” ” خسرت الولايات المتحدة صناعتها الرئيسية، وتوقف شعبها عن توفير المال وتزداد حكوماتها اقتراضا من المصارف المركزية الأسيوية، في حين منافسها يزدهرون”( ).
كما أن تحول القوة من القوة العسكرية إلى القوة الصناعية، التعليمية، الاجتماعية، والثقافية، يفيد أننا ننتقل إلى عالم ما بعد أمريكا، وهذا لا يعني انحطاطها، بقدر ما يلقي الضوء على التحول الذي يجري في عالم اليوم، وهذا طبيعي فالتغيرات تجري بصورة تدريجية، فالعالم يبدو مألوفا، لكنه في حقيقة الأمر عالم مختلف إلى حد بعيد.
إن الحديث عن النظام الدولي وتشخيصه يتطلب دراسة لا تستوعبه مقالة، إلا إننا حاولنا الإشارة إلى المؤشرات الآنية المتمثلة بالخصوص في الاحتجاجات التي تعرفها أمريكا وفشل تعاملها مع أزمة كورونا، وإن من السابق لأوانه الحديث على نظام دولي جديد على المدى القريب أو المتوسط، إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن كورونا أسست لصحوة سياسية عالمية هزت أركان النظام الدولي.
الهامش:
– فريد زكرياء “عالم ما بعد أمريكا”، ترجمة بسام شيحة، الدار العربية للعلوم ناشرون-بيروت، الطبعة الأولى،2009.
2 – مصطفى صالح “الاحتجاجات الأمريكية..الأسباب والتداعيات الخارجية”، منشور على الموقع الالكتروني: http://www.acrseg.org/41632 ، اطلع عليه بتاريخ 6 يونيو 2020.
3 – عبد الباري عطوان، مقالة منشور في جريدة رأي اليوم .
4 – محمد كمال “من يقود العالم” مقال منشور على الموقع الالكترونيhttps://www.masarat.ps/article/4647 اطلع عليه بتاريخ 6 يونيو 2020.
5- وضاح خنفار “النظام الدولي في عصر كورونا”، https://arabicpost.net/opinions/2020/03/24.
6- حسناء نصر الحسين ” حتمية التحولات في العلاقات الدولية في عالم ما بعد الكورونا.. وكوفيد 19 يغير وجهة القيادة العالمية ويرسم شكلا جديدا من العولمة “، https://www.raialyoum.com.
7 – فريد زكرياء “عالم ما بعد امريكا”، الدار العربية للعلوم ناشرون-بيروت، الطبعة الأولى،2009، ص: 26.وما بعدها.
8- فريد زكرياء، مرجع سابق، ص:57.