بقلم الأستاذ محمد مرزوق : أستاذ مادة الفلسفة بالمديرية الإقليمية تاونات
إن المتأمل لدلالة هذا العنوان، سيجد أن الفلسفة هي أكثر من أن تكون مجرد مادة دراسية أو معرفية تقدم من طرف مدرس داخل فضاء فيزيقي مغلق تنعدم فيه شروط التفلسف والتأمل والتفكير الحر، فالتلميذ يحس بنفسه داخل سجن بأربعة أسوار، فكيف له أن ينفتح على الواقع المعيش ويجعل من الفلسفة أسلوبا للحياة.
إن الفلسفة أو فعل التفلسف خبرة ذاتية وتجربة حياتية وواقعية تعيشها الذات الإنسانية بكل جرأة وشجاعة منخرطة في الحياة انخراطا واعيا وحرا. والانخراط الحر هو الذي يمليه العقل, إذ أن الإنسان الحر هو الذي يقوده العقل في الحياة, وهو الذي يعيش من أجل الحياة دون خشية الموت. وهذا ما عبر عنه باروخ اسبينوزا في قولته: « تأمل في الحياة لا الموت ».
في نفس السياق يقول المفكر المغربي سعيد ناشيد: « إذا لم تنفعك الفلسفة في مواجهة أشد ظروف الحياة قسوة وضراوة فمعناه أن دراستك لها – إن كنت تدرسها – مجرد مضيعة للوقت, وعليك أن تعيد النظر في أسلوب التعلم ». ( كتاب التداوي بالفلسفة, ص:8 )
إذن يتضح من هذا القول أن الفلسفة أسلوب للحياة وطريقة للعيش البسيط, فنحن نحتاج إلى من يساعدنا في مواجهة صعوبات ومشاكل الحياة، خاصة عندما تساعدنا في إعادة التفكير في نمط تفكيرنا، بالرغم من الاعتراضات التي ستواجه هذا الطرح من قبل أن الفلاسفة أنفسهم عاشوا صعوبات ومشاكل نفسية وأمراض وأزمات. فكيف لأفكارهم أن تساعدنا ؟
لكن ما يغفله أصحاب هذا الاعتراض أن هؤلاء اختبروا الحياة، وبالتالي هم معلمونا ذوي الخبرة والحنكة والأكثر إبداعا وحكمة.
ويمكن أن نتصور الفيلسوف على صورة سقراط الذي كان يجوب أسواق وشوارع أثينا محاورا عامة الناس ليدفع بهم إلى التفكير في يقينياتهم، معتمدا على ما يسمى المنهج التوليدي القائم على السؤال الساخر، فهو القائل: « كانت أمي قابلة تولد النساء وأنا سأولد الأفكار », أو على صورة أفلاطون المعلم الذي كان يتحلق حوله أتباعه في أكاديميته ( المدرسة التي أسسها وكان يعلم فيها الفلسفة ), أو على صورة هيجل الأستاذ الجامعي الذي كان الطلبة في الجامعة يقبلون على دروسه للخوض في مغامرة الفلسفة, أو على صورة الفيلسوف ديوجين الذي كان يسكن داخل برميل, وفي الصباح يحمل مصباحا متجولا في أزقة وأسواق المدينة وهو يردد: « إنني أبحث عن الحقيقة ». وهذه الصور لا تختلف, إلا ظاهرا, فالفيلسوف يعلم الناس أو يعلم الطلبة كيف يقودون تفكيرهم وكيف يناهضون المسلمات, ويرفضون الأفكار الجاهزة والمسبقة معتمدين على أنفسهم في البحث عن الحقيقة. وبذلك يكون الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يمتهن مهنة يعشقها ولا يفضل عنها حياته، وهذا ما يجعل من تعليمه خلاصة لتجربة خاصة يفترض الدخول فيها وتعلم معناها الأساسي، قبول مبدأ التفلسف الأول وهو التجرد.
– الفلسفة كطريقة للتفكير:
يقول نيتشه: « إن الفلسفة كما كنت دوما أفهمها وأعيشها، هي الحياة طوعا في الجليد, وفوق الجبال الشاهقة، البحث عن كل ما هو غريب وإشكالي في الوجود ». ( كتاب: هذا هو الإنسان ). يتضح من قول نيتشه أن الفلسفة ليست مجرد طريقة تفكير لفهم النصوص وتحليلها ودراسة الخطابات أو لحظة ابتكار للأفكار التي تنفع الإنسان، وإنما هي، عطفا على كل ذلك، وسيلة لصنع الحياة وفهمها وعيشها بكل بساطة، بأقل ما يمكن من الأوهام والخرافات، مما يجعل الإنسان يتصالح مع ذاته ومع قدره الخاص، وأن يتقبل مصيره الذي صنعه لنفسه، دون أن يكون ذلك رهينا بأقدار الناس الآخرين أو بطبيعتها الخاصة. من هنا تصبح الفلسفة طريقة تفكير وأسلوب للحياة تساعد الإنسان على أن يكون هو كما هو، لا كما يريده الآخرون، أي واضحا وبسيطا يحمل مشاعر صادقة وقيما تنفع الإنسانية.
إن الفلسفة تسمو بنا فوق ذواتنا وتهبنا الشعور بالوجود العميق والحياة البسيطة الصادقة، كما دعا إليها الفلاسفة والمفكرون، والقائمة كما يذكر سعيد ناشيد في كتابه ” التداوي بالفلسفة ” على خمسة مقومات هي:
– أولها عيش الحياة بأقل ما يمكن من الشقاء والألم والأوهام،
– وثانيهما حياة يكون فيها متصالحا مع قدره الخاص،
– أما الثالثة فهي حياة يكون فيها هو ذاته، لا كما يريده الآخرون،
– والمقوم الرابع حياة يبسط فيها سلطانه على نفسه،
– وأخيرا تأتي الحياة حيث تصنع المتعة بأقل الأشياء وتبدع السعادة بأيسر الوسائل.
فوظيفة الفلسفة إذن مساعدة من يعيش الحياة في ظروف شديدة القساوة والضراوة على تقبلها، لا عيشها على مضض. فالفلسفة بتعبير سعيد ناشيد ” خلاص دنيوي “، وهي بتعبير الرواقيين ” صيدلية ” للإنسان، يجد فيها ترياقا لعلاته.