عرف التاريخ البشري عبر عصوره وأزمنته ظهور بين فينة واخرى انتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات…تحصد مع كل شمس ألاف الأرواح، ويلهب العالم بسياط الموجات الوبائية المتكررة، في كل قرن من الزمان، وحين تأتي تخلف من القتلى أكثر مما تخلفه الحروب المدمرة، كيف تعامل الناس مع هذه الأوبئة؟ كيف كانت فلسفتهم بين الدين والعلم؟ وكيف تطور فكر الإنسان وتبلورة فلسفته ومعتقداته توجهها؟
سنتطرق في هذا المقال إلى كيفية تعامل الجنس البشري مع هذه الكوارث، بالرغم من أن معضلة الشر تدخل في الجدل الفلسفي، فسنحاول دراستها من الناحية التاريخية، الفكرية والفلسفية؛
منذ القدم ظل التصور البشري إلى مشكلة الشر، لا يخرج عن إطار المعتقدات السائدة في العالم القديم، باعتبار الدين هو جوهر الحضارات الإنسانية والمحرك الرئيسي والأساسي لتاريخ البشري بأكمله، والذي يجد فيه الإنسان المنفذ لإشباع احتياجاته الروحية. وكدا لإيجاد شغفه ورغبته في معرفة أصل الحياة والكون والوجود. منذ بداية وعيه وإدراكه للحياة، على مر العصور.
فالمعتقدات الدينية ونزعته بالثقافة الشعبية كان مفهوم الشر عنده غامض، ثم بدأ ينسبه، إلى الأرواح الشريرة، وتعدد الألهة وغضبها، وتغير أهوائها، هي العوامل المسببة للمرض والموت، دون المحاولة الأخذ بالأسباب، للقضاء عليها، وفي الوقت نفسه، كان الجزع يأكل قلوبهم دون طمأنينة التوكل، وبدأ يؤسس لإله الخير، وإله الشر، المتمثل في الشيطان “المعتقد المثنوية أو المانوية”. إلا أنه يجب أن نذكر بظهور الديانات التوحيدية، ببروز رجال صالحين يدعون إلى إله واحد، بين كل فترة وأخرى. لكن ظلت معضلة الشر تؤرق الفكر الإنسان وفلسفته بين الدين والعلم. وتهز العقل والنفس، كيف نجمع بين هذه المظاهر المؤلمة، ووجود إله عليم رحيم قدير عادل؟ فظهر التعارض الواضح لأن مفهوم الإله الواحد المطلق في المعتقدات التوحيدية، يتعارض مع وجود الشر، لماذا يسمح الله الواحد بوجود الشر؟
فكانت الإجابة عن هذه الأسئلة في التوراة عند اليهود، هو أن الإله خالق الكون هو خالق الخير وخالق الشر. فهو يخلقه لحكمة لا يعلمها سواه.
أما عند الزرادشتية، فكان هو أن الإله قرر أن يخلق مخلوقين إثنين، ويمنحهم الإرادة والاختيار، فاختار أحدهما الخير “روح القدس”، والأخر هو ” الشيطان” الممثل للشر. إذا الشر في هذا المعتقد لا يصدر عن الإله، بل هو نتيجة اختيار حر، لأحد مخلوقاته. فالمبدئ الأساسي الذي أرساه هو حرية الإرادة، ولهذا قرر أن ينقل الشر إلى العالم المادي، وجعل الإنسان في محور الصراع بين الخير والشر، وقائده للانتصار الخير على الشر.
أما عند المسيحية، فالإله هو خلق المخلوقات وأعطاها حرية الإرادة والاختيار، إلا أن مفهوم الشر صادر عن معارضة وعصيان أحد تلك المخلوقات، لإرادة ومشيئة الله، فأصبح هو الشيطان، وقرر الإله أن يعطي للإنسان حرية الإرادة والعقل ليحارب هذا المخلوق “الشيطان”.
أما في الإسلام، وبالضبط سنة 640 م، تتبلور فلسفة جديدة، يرسخها الدين الجديد، خرج عمر ابن الخطاب خليفة المسلمين إلى الشام، فلما دنى منه، جاءه خبر طاعون عمواس، الذي تفشى، وقف عمر متسائلا، هل يدخل إلى الأرض التي حل بها الوباء، أم يعود إلى المدينة، أراد عمر الرجوع، وهنا يقف صاحبه أبو عبيدة، يقول له: “أفرارا من قدر الله”، يجيبه عمر: “نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله”، فالتوكل على الله، لا ينافي الاحتياط والأخذ بأسباب النجاة، هذا الجمع بين المعنيين، يرسم فلسفة الإسلام في القدر والأسباب.
لكن في عصر الحديث بعد مصادرة الكنسية للعلم سيظهر لنا فكر جديد في المجتمع الغربي “عصر النهضة، الأنوار”، تتبلور فلسفة جديدة ذات فكر مادي علماني، خاصة بعد عجز رجال الدين واللاهوت عن الاجابة، عن معضلة الشر ومفهومه نسبي، وهو نوعان، الصادر عن الإنسان هو أي فعل أو ممارسة منافية ومؤذي للغير، أي فعل شرير من قبل الإنسان. إذا فسبب الشر هو طبيعة الإنسان نفسه. التي تميل إليه.
أما بالنسبة لشر الصادر من خارج الإنسان، مثل الأمراض والأوجاع والكوارث…فهي في حقيقتها ليست شر، بل هي ظواهر طبيعية تحدث في العالم المادي الفيزيائي لأسباب طبيعية جدا قد تكون معروفة لدى الإنسان ويجد لها تفسير وقد لا تكون معروفة، ولكن في النهاية تكون نتيجة قوانين حتمية بعيدة تماما عن تصورات الإنسان، فالطبيعة لا تأبه للإنسان ومشاعره، فحتى الأوبئة والطواعين، هي في الحقيقة جزء من غريزة وطبيعة هذه الكائنات فهي تفعل ما تفعله نتيجة دوافعها وجيناتها الغريزة ولا تأبه لتصوراتنا ومشاعرنا. لأنه جزء من العالم المادي الذي نعيش فيه، سواء بسبب الإنسان وطبيعته، أو بسبب الطبيعة وما يصدر عنها من ظواهر محكومة بقوانين طبيعية. بل سيتطور هذا الفكر بالخصوص في القرنين 19 و20م، بتطور العلوم والمعرفة الانسانية، ” داروين، ماركس، نيتشه…” فالمنطق الإلحاد يقول إن وجود الله لا يسمح لوجود الشر في العالم. مما يجعلنا نسقط في الفلسفة الوجودية، التي تقودنا للعبثية والعدمية حسب “جون بول سارتر”.
لماذا نطرح هذه المغالطة لأننا نعتقد في دواخلنا جميع البشرية باختلاف مللها ونحلها، حتى الملاحدة، بوجود الإله له صفات الكمال. يقول جي ماكي:” الاحتجاج بوجود الشر لنفي وجود الخالق يعد قفزة غير منطقية واستنتاج خائب”. فهذه المغالطة لا تشكك في وجود الله، بل تشكك في صفاته. فينسب إليه العجز بعدما افترض وجود صفات محددة غير كاملة “العلم، القدرة، والرحمة” وترك الصفات الأخرى:” العدل، الحكمة…”، فسوء التصور والجهل لمعنى الكمال هو السبب المباشر لهذه المغالطة.
فالكون الإلحادي، هو عبارة عن مادة وطاقة وحركة، اذن لا معنى لسؤال الحكمة، في وجود يكتنفه العبث والعدم. مما يدعونا لكي نفهم كمال الرب، وندرك تناسق الصورة الكونية، عندما نسأل عن الإيمان بالله الحكيم، ووجود الرب.
عموما فلا تعارض في الإسلام بين الدين والعلم، لقول نبي الإسلام: “تداووا عباد الله فإن الله لم ينزل داء، إلا وقد أنزل له دواء”. فليس في تشريعات الدين الإسلامي ما يدم العلم والأخذ بالأسباب لرفع الضرر عن الناس، لكن الدين ليس من شأنه أن يحل محل العلم، بل هو يحثهم على طلبه، ويرشدهم إليه، للأخذ بالأسباب ما استطاعوا. فلا يكون عاجزا فيهمل قانون الأسباب الذي جعله الله نظاما للكون، ولا يكون غافلا فينسى أنه لا يقع شيء إلا بإذن الله وتقديره.
بقلم اسماعيل سطوري
شاهد أيضاً
مكناس : المديرية الجهوية للصحة والحماية الاجتماعية بجهة فاس مكناس تنظم دورة تكوينية حول المشاركة و الالتزام الجماعاتي بشراكة و تأطير من مديرية السكان
متابعة/ماروك24مديا في إطار انخراط المديرية الجهوية للصحة والحماية الاجتماعية بجهة فاس مكناس في تنزيل استراتجية …
تازة:زيارة تفقدية للجنة التتبع بمصلحة البرنامج الوطني للتمنيع بمديرية السكان
متابعة/ماروك24مديا حلت يومه الخميس 31 اكتوبر 2024 بالمندوبية الاقليمية للصحة و الحماية الاجتماعية لجنة تابعة …