بفضل التقدم التكنولوجي أصبح عالمنا أصغر وأصغر حتى أنه بات أشبه بحي صغير، فالقرية أصبحت أكبر منه، يتفشى مرض في أحد بيوته فيعم الحي كاملاً. كما أن الحدث أصبح يُروى صوتًا وصورة على الهواء مباشرة ليصل إلى العالم كله مهما كان موقعه نائيًا. ولكن هذا التقدم التكنولوجي، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزية أصبحت منبرًا لمن لا منبر له، فاختلط فيه الغث والسمين والدر والبعر، مع غلبة الغث والبعر عليه.
في المجال الصحافي، ومن حيث المضمون، أصبحنا لا نرى يطفو على السطح سوى الأخبار غير المفيدة والتي تدفع العقل المغربي إلى السطحية أكثر فأكثر، وما هو إلاّ هرولة وراء عقلية الأغلبية التي تشكلت في السنين الماضية بسبب تدني مستوى التعليم والإعلام، فأصبحت العقول لا تحسن التعاطي إلاّ مع ما هو بذيء وتافه من فضائح وكوارث وأسرار لأشخاص تافهين أصلاً ولا يضيفون إلى العقل المغربيّ إلاّ تشتيت تركيزه و لفت انتباهه إلى ما لا ينفعه. وباتباع الصحافة لهذا التوجه بحثًا عن “الشو” فإن القلم يتدهور ويتدلّى إلى ذلك الوحل العالقة فيه عقول الناس بدلاً من أن يبادر إلى القيام بدوره فيستنقذهم منه ويرفع من مستواهم على قدر استطاعة القلم والصحافي.
أما من حيث الشكل فإنّا نرى أناسًا لا يكادون يقيمون أقلامهم بجملة عربية فصيحة واحدة خالية من الأخطاء (باعتبار أننا في منبر يتحدث اللغة العربية هنا)، وتجد المواضيع مفككة وتفتقر إلى بنية محددة أو منهج واضح. وما قد يغيظ هو أنك تجد العناوين في كتاباتهم خادعة ولا تتطابق مع محتوى المقال. لا بأس في أن يكون العنوان مثيرًا، ولكننا أصبحنا نرى أن بعضهم أصبح يكذب في العناوين حتى يجلب عدد مشاهدات أكبر، فيضع عنوانًا مخادعًا يناقض في ظاهره المضمون ولا يتطابق معه إلاّ بتأويل بارد كاسد فاسد. ومع ذلك تجد هؤلاء اعتلوا المنابر وأصبح لهم صيت وباع ومقالات ومتابعين، فمن أوصلهم إلى المنابر؟
على المؤسسات الصحافية أن تدرك المسؤولية التي تقع على عاتقها، وأخص بالذكر الصحافة الإلكترونية القادرة على الوصول إلى أكبر شريحة من الناس، إذ إن الكثير من المواقع تنشر مقاطع فيديو وصورًا وأخبارًا تصل إلى الآلاف فتصبح حديث الناس والشغل الشاغل لهم، بينما هذه المقاطع والصور لا تشارك إلاّ في هدم العقول. على المسؤولين عن هذه المنابر أن يضعوا توجهات واضحة لمنابرهم، ليتسنى للصحافي المنضم إليهم أو الراغب في الانضمام أن يعرف القيم التي سيدافع عنها، ثم يحاولوا توجيه كتّابهم نحو المواضيع التي تلتزم بهذه القيم وترتقي بمستوى العقول، لا تلك التي تجعل أقدام الناس تعلق في مستنقع التفاهة أكثر، وإن كثر الطالبون لهذا النوع من المواضيع. فإن فضّل المسؤولون التفاهة على القيم فقد باعوا قيمهم بثمن بخس بل وباعوا حب وطنهم ودينهم بما لا يستحق.
يجب أن نعترف بأننا نحن الصحافيين والمؤسسات الصحافية ساهمنا، وكثير منا مازال يساهم، في “تكليخ” الشعب المغربي وما نراه الآن في بعض المناطق من عدم استجابة لمطالب السلطات وخروج الناس جماعات وأفرادًا وعدم الأخذ باحتياطات السلامة من فيروس كورونا المستجد إنما هو حصاد أعمالنا، أعمال التعليم والإعلام والصحافة.
وإن رأى البعض فيروس كورونا المستجد كارثة إنسانية فقط فإني، مثل الكثير ممن سبقني في هذا القول، أرى في انتشاره فرصة للبشرية جمعاء لتقف مع نفسها لحظة وتعيد ترتيب أولوياتها. ولكني ألمح إلى أنها فرصة للصحافيين وأنبه إلى ذلك حتى لا يفوتنا، فإنما نحن جزء من البشرية وعلينا أن نقف مع أنفسنا ونعرف أخطاءنا ونستفيد منها ونمهد لأنفسنا وللأجيال القادمة. لقد حان الوقت لفعل هذا، فإن لم نفعله الآن، فمتى؟
زكرياء عالم
كاتب رأي